قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ام افتراء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ اما بعد :
قضية السحر المذكورة في حديث صحيح البخاري ومسلم وابن حبان والتي انقسم فيها الناس بين مأيد لها ومعارض فما هو الصواب في ذلك .هناك رأيين نريد توضيحهما .
الراي الاول : وهو ما ذهب اليه جمهور العلماء والفقهاء :فإن واقعة سحر اليهود للنبي ﷺ صحيحة ثابتة أنه وقع في المدينة، عندما استقر الوحي واستقرت الرسالة، وقامت دلائل النبوة وصدق الرسالة، ونصر الله نبيه على المشركين وأذلهم، تعرض له شخص من اليهود يدعى: لبيد بن الأعصم، فعمل له سحرًا في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر النخل(اي السحر عُمل على بعض من شعر راسه او لحيته الشريفه والمشط وطلع نخله ذكر)، فصار يخيل إليه أنه فعل بعض الشيء مع أهله(اي نسائه) ولم يفعله، لكن لم يتاثر بحمد الله تعالى عقله وشعوره وتمييزه بالسحر ، فيما يحدِّث به الناس، ويكلم الناس بالحق الذي أوحاه الله إليه، لكنه أحس بشيء أثر عليه بعض الأثر مع نسائه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إنه كان يخيل إليه أنه فعل بعض الشيء في البيت مع أهله -وهو لم يفعله-، فجاءه الوحي من ربه تبارك وتعالى بواسطة جبريل عليه السلام فأخبره بما وقع، فبعث من استخرج ذلك الشيء من بئر لأحد الأنصار فأتلفه وزال عنه بحمد الله تعالى ذلك الأثر، وأنزل عليه سبحانه سورتي المعوذتين كما ذكر المفسرون فقرأهما وزال عنه كل بلاء وقال عليه الصلاة والسلام: ما تعوذ المتعوذون بمثلهما.
لقد شاء الله سبحانه - وله الحكمة البالغة - أن يبتلي أنبياءه بشتى أنواع البلاء ليعلم الناس أنهم بشر مثلهم ، فلا يرفعوهم إلى درجة الألوهية . والله جل وعلا عصم نبيه ﷺ من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها ، أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء والسحر كما اصاب موسى عليه السلام كما سياتي بيانه و كالذي أصابه ﷺ كان مرضـًا من الأمراض عارضـًا شفاه الله منه ، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما ، فإن المرض يجوز على الأنبياء ، وكذلك الإغماء ، فقد أغمي عليه ﷺ وقد جرح في غزوة أحد، وكسرت البيضة على رأسه، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقًا شديدًا، فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة، ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ﷺ .
أهل السنة والجماعة متفقون على ثبوت واقعة السحر التي جرت للنبي ﷺ، وقد طعن فيها أهل البدع كالمعتزلة قديما ، وبعض من تأثر بهم حديثا ، وقد جاء في ثبوتها عدة أحاديث كما عند البخاري ومسلم وابن حبان .
وأشهرها ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: ( سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ:" يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ " فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ ) . رواه البخاري (5763) ، ومسلم (2189).
كما أثبت صحه هذه الاحاديث واعترف بصحتها رواية ودراية كبار الأئمة الذي هم أرسخ قدمـًا في هذا الشأن ، وفي الجمع بين المعقول والمنقول كالإمام المازري و الخطابي ،و القاضي عياض ، والإمام النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، والإمام ابن كثير ، والإمام ابن حجر وغيرهم ممن لا يحصيهم العدُّ ، فهل كل هؤلاء الأئمة فسدت عقولهم ، فلم يتفطنوا إلى ما تفطن إليه أصحاب العقول ؟! ، أم أنه التسليم والانقياد ، وتعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم معارضته برأي أو قياس .
وقد اتفق أهل السنة على أن السحر الذي وقع للنبي ﷺ لا يطعن في مقام النبوة ، وأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من نسبة شيء إلى الدين وليس منه ، فلا يؤثر في ذلك سحر أو غيره كما قال الله جل وعلا " وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ".
قال الإمام المازري في "المعلم بفوائد مسلم" (3/158) " اجمع أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة على إثبات السّحر ، وأن له حقيقةً كحقائق غيره من الأشياء الثابتة ؛ خلافا لمن أنكره ونَفَى حقيقته ، وأضاف ما يتّفق منه إلى خَيَالاتٍ باطلةٍ لا حقائق لها، وقد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز وذكر أنّه مما يتَعَلَّم، وذكر ما يشير إلى أنّه مما يكفَّر به وأنّه يفَرَّق به بين المرء وزَوجِه ، وهذا كلُّه مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له ....
وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث .. ، وَزَعَموا أنّه يحطّ مَنصِب النُّبوة ويشكّك فيها ، وَكلُّ مَا أدَّى إلى ذلك فهو بَاطل .
مع العلم ان موسى عليه السلام ، وهو من اولي العزم من الرسل قد وقع تحت تاثير السحر فيما ثبت في القرآن الكريم منسوباً إلى نبي الله موسى عليه السلام من أنه تخيل في حبال السحرة وعصيهم أنها حيات تسعى ،كما في سورة طه : ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ )
فقد وقع سيّدنا موسى عليه السلام تحث تأثير السحر(التخييل) بانه رأى الحبال والعصي على غير حقيقتها المطابقة لواقعها.
فهل ينكرون القرآن القطعي المتواتر ؟! وهل تخيله هذا أخل بمنصب الرسالة والتبليغ ؟! وإذا كان لا مناص لهم من التسليم بما جاء به القرآن الكريم ، فلم اعتبروا التخيل في حديث السحر منافيـًا للعصمة ؟! ولم يعتبروه في قصة موسى عليه السلام منافيـًا للعصمة ؟! .
وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّخَيُّلِ : فَهُوَ بِالْبَصَرِ ، لَا تَخَيُّلٌ يَطْرُقُ إلَى الْعَقْلِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ النبيﷺ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِهِ النِّسَاءَ، بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيَالٌ. وَقَدْ يَحْدُثُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ". انتهى.
وقال الخطابي في "أعلام الحديث" (2/1504) " فأما ما يتعلق من أمره ﷺ بالنبوة، فقد عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، وإنما كان يخيل إليه ، من أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، في أمر النساء خصوصا، وفي إتيان أهله ، قَصْرَةً، إذ كان قد أخذ عنهن بالسحر، دون ما سواه من أمر الدين والنبوة .
وهذا من جملة ما تضمنه قوله عز وجل: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه الآية. فلا ضرر إذن مما لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، والحمد الله على ذلك ". انتهى .
وقال القاضي عياض في "الشفا" (2/160)" وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان". انتهى .
الراي الثاني المعارض لقضية ثبوت السحر للنبي ﷺ :
الشبه التي أثيرت حول الحديث :
يقولون كيف يسحر الرسول ﷺ والله يقول له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]؟ وكيف يسحر وهو يتلقى الوحي عن ربه ويبلغ ذلك للمسلمين، فكيف يبلغ وهو مسحور وقول الكفار والمشركين: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلًا مَسْحُورًا [الإسراء:47]؟
وزَعَموا أن تجويز هذا يعدم الثقّة بما شرعوه من الشرائع ، ولعله يتخيل إليه جبريل -عليه السلام- ولَيس ثمّ ما يراه ، أو أنّه أوحى إليه وَمَا أوحِيَ إلَيه .
وهذا الذي قالوه باطل ؛ إنَّما المراد بالحديث أنّه كان يخيّل إليه أنه وطِئ زوجاتِهِ وليس بواطئ، وقد يَتَخَيَّل في المنام للإنسان مثل هذا المعنى ، ولا حقيقة له . فلا يبعد أن يكون ﷺ يَتَخَيَّله في اليقظة ، وإن لم يكن حقيقةً . وذلك أنّ الدّليل قد قام على صدقه فيما يبلّغه عَنِ الله سبحانه ، وعلى عصمته فيه ، والمعجزة شاهدة بصدقه ، وتجويزُ ما قام الدّليل على خلافه باطل .
وأما أن الحديث مخالف للقرآن فهو دليل على سوء الفهم ، لأن المشركين لم يريدوا بقولهم { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }انهم يقصدون هذه القصة ، وإنما أرادوا بقولهم ذلك إثبات أن ما يصدُر عنه ما هو إلا خيال وجنون في كل ما يقول وما يفعل ، وفيما يأتي ويذر، وأنه ليس رسولاً فكانوا يشككون في الرسالة والبلاغ .
وأما ادعائهم بأن هذا الحديث يتنافى مع عصمة النبي ﷺ في الرسالة والبلاغ فإن الذين صححوا حديث السحر كالبخاري و مسلم وغيرهما من أئمة الحديث ، ومن جاء بعدهما من أهل العلم والشراح ، قالوا إن ما حدث للنبيﷺ إنما هو من جنس سائر الأمراض التي تعرض لجميع البشر ، وتتعلق بالجسم ولا تسلط لها على العقل أبداً ، وهو أمر يجوز على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام "انتهي.
الراجح هو ما ذهب اليه جمهور اهل العلم وجمهور الفقهاء على ثبوت واقعة السحر التي جرت للنبي ﷺ .
والله اعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق